تعتبر المكتبات الدعائم الأساسية التي تشاد عليها صروح العلم والثقافة والحضارة والمعرفة والتربية ,والينابيع الفياضة التي تغذي تقدم الأمم العلمي والحضاري بماء الحياة والبقاء,ويقاس رقي كل أمة من الأمم أو تأخرها بكثرة المكتبات وما تلقاه من عناية ورعاية, أو ندرتها وإهمالها واعتبارها ذات أهمية ثانوية .
لم يكن عند العرب سجلات مدونة, أو مكتبات أو كتب, أو شيء من هذا القبيل إلا عند عرب الجنوب فقد اختلفت حضارتهم عن حضارة عرب الشمال ,حيث وجد عندهم كثير من النقوش على الأحجار وغيرها .لكن عندما جاء الإسلام في مكة وتبعه انسياح العرب المسلمين في الأراضي المحررة ,وامتزجوا بسكانها واطلعوا مباشرة على حضارتهم تأثروا بهم ووجدوا عندهم أشياء لم يكن لهم عهد بها ,ومن ذلك الكتب والمكتبات ,فقلدوهم وأسرعوا إلى التدوين لا سيما في العراق والشام . وثبت أن أول خزانة كتب في الإسلام أنشئت في دمشق ,أنشأها حكيم آل مروان خالد بن يزيد الأموي (توفي سنة 85 هـ )وكانت تحوي العلوم التي نقلها من القبطية واليونانية والسريانية في الكيمياء والطب والنجوم والجغرافيا وغير ذلك.
وفي القرن الثاني للهجرة انتقلت العاصمة من دمشق إلى بغداد ,ولم يعرف فيها مكتبات عامة أو خاصة, إلا بعض الكتب التي أوقفها أصحابها على المساجد أو الدور الخاصة, وعندما أنشئت المدارس في بلاد الشام وخاصة بدمشق, لم يخل مسجد أو مدرسة من خزانة يطالعها العلماء ويرجع إليها أئمة الحديث ,وفي طليعة خزائن دمشق نذكر خزانة الجامع الأموي التي أوقف فيها فريق من أرباب العلم كتبهم ومصنفاتهم, فقد أثبت المؤرخون أن كثيرا منهم أوقفوا كتبهم على الجامع الأموي ,ومنهم: - أبو علي بن طاهر السلمي النحوي (توفي سنة 500 هـ ),وقد كانت له حلقة في الجامع الأموي وكان عنده مكتبة عظيمة أوقفها على المسجد. - تاج الدين الكندي( توفي سنة 613 هـ), كانت عنده خزانة كتب تحوي كل نفيس ونادر أوقفها على المسجد . - شرف الدين بن عروة الموصلي أوقف خزائن كتبه على الجامع الأموي أيضا . - كما كان فيه خزائن كثيرة مختصة كل واحدة بمذهب معين وعلم محدد . كما عرفت دمشق خزائن كتب كثيرة مثل مكتبة الطبيب الدخوار صاحب أول مدرسة طبية خاصة بدمشق في القرن السابع للهجرة ,وعرفت مكتبة ابن قيم الجوزية , ومكتبة زين الدين عمر القرشي المليئة بنفائس الكتب في القرن الثامن للهجرة , وهل تنسى دمشق مكتبة ابن فضل اللـه العمري ,وابن مالك النحوي ,وابن خلكان المؤرخ ,وأبو شامة الذي أوقف مكتبته على المدرسة العادلية الكبرى ثم احترقت . مصائب مكتبات الجامع الأموي لقد كثرت المكتبات بدمشق كما كثرت في باقي البلدان, لكنها أصيبت بمصائب وكوارث كثيرة أودت بها أو بمعظمها كما حصل لغيرها , فالجامع الأموي أصيب بعدة زلازل كادت أن تزيله عن الوجود , كما أصيب بعدة حرائق هدمته وأحرقت مكتباته . فقد شهد الجامع الأموي زلازل مدمرة كان أخطرها زلزال عام 597هـ /1200م حيث يروي المؤرخ سبط بن الجوزي أنه أصاب أكثر مدن الشام بالدمار, ومات مليون من الناس , كذلك زلزال عام 1173هـ /1759 م وقد وصفه الغزي في مذكراته فقال : تهدمت معظم بيوت دمشق وتهدمت مآذن الأموي الثلاث ,وسقطت قبة النسر بكاملها ,وكذلك جميع الرواق الشمالي للصحن مع أعمدته الأموية ومعظم أنحاء الجامع . أما الحرائق التي شهدها الجامع الأموي فهي كثيرة وأهمها : - الحريق العظيم الذي أصاب الجامع الأموي المليء بخزائن الكتب سنة 461هـ /1068م فكما دثرت محاسنه ذهبت الأعمال النفيسة والكتب والمصاحف بهذا الحريق , وكذلك أصابه حريق عام 646هـ /1248 م وحريق آخر عام 740هـ/1339 م الذي كان نتيجة مؤامرة خارجية , وحريق عام 753هـ /1352 م كان حريقا ضخما , أما حريق عام 784هـ /1382م فقد أتى على الجامع كله وعلى ما حوله من أسواق ودور. - وفي عام 803 هـ /1400 م شهد الجامع الأموي أخطر حريق على يد التتار بقيادة تيمورلنك , وقد استمر ثلاثة أيام فاحترق كله مع كل دور وأسواق دمشق , ووصف هذا الحريق أسير بافاري لدى تيمور اسمه (شيلتر بيرغر) بأن التتار جمعوا الحطب حول الجامع , وكان فيه ثلاثون ألفا لجأوا إليه معظمهم من النساء والأطفال وأتت النار عليه وعلى من فيه , ويقول ابن خلدون بأن البناء تهدم بكامله ولم يبق سوى الأسوار التي لاوجود للأخشاب فيها. - وفي عام 1310هـ /1892 م شهد الجامع الأموي آخر حريق حيث احترق الحرم كله , وسقطت السقوف والعواميد وتشوه الحرم , وقيل أن سببه أركيلة أحد العاملين في إصلاح السقف الخشبي . خزانة القبة يقول محمد كردعلي في خطط الشام عندما تحدث عن مصائب مكتبات دمشق : ومن الخزائن المشهورة التي بعثرت في عهدنا ولم نعرف متى جمعت , خزانة قبة صحن الجامع الأموي بدمشق التي كانت مليئة بالنفائس, فما قصة الخزانة في هذه القبة؟ . إن الداخل إلى الجامع الأموي من باب البريد يشاهد قبة جميلة قائمة على ثمانية أعمدة رخامية مزخرفة بالفصوص والأصبغة الملونة , ومسقوفة بالرصاص , قيل إن مال الجامع كان يختزن بها ... وقد بنيت في أيام الدولة العباسية في عهد الخليفة المهدي (سنة 166هـ ) , وقد بناها أمير دمشق الفضل بن صالح بن علي على ما ذكره الذهبي في عبره والصلاح الكتبي في تاريخه. كما كان عامة الناس يرون أن هذه القبة مستودعا للصكوك والأوراق المختصة بأوقاف الجامع وأملاكه , ولم يكن يعلم حقيقة ما فيها إلا بعض الخاصة فقط . وكما تعرض الجامع الأموي لكثير من الزلازل والحرائق وتعديات الزمن وإلى عمليات السرقة والنهب لخزائن كتبه النفيسة , تعرضت كنوز هذه القبة لعمليات النهب والسرقة , هذه المخطوطات النفيسة والنادرة التي يرتقي عهدها إلى أيام الخلافة الأموية كما ذكرت مجلة الشرق في مجلدها الخامس لعام 1902 م ففي النصف الأخير من القرن التاسع عشر ميلادي دخلها قنصل انكلترا (روجرس) ليلا مع بعض السياح وانتقى أشياء مهمة منها ,ثم دخلها بعده محمود حمزة مفتي دمشق , ولما مر بدمشق البارون (هرمن فون سودن) مدرس اللاهوت في كلية برلين رأى القبة وعلم بما فيها وحاول الدخول إليها فلم يستطع , وعندما عاد إلى بلده زين لدولته أمر هذه القبة ,
وسعت حكومته لدى الحكومة العثمانية لفتحها والترخيص لعلمائهم في زيارتها وفحص مضمونها, وكان يتمنى أن يجد فيها بعض ما يعينه على إدراك خدمة لا يزال دائباً وراء انجازها , وهي تهيئة نسخة من الإنجيل اليوناني كما ذكر حبيب الزيات , وهو مشروع خطير انتدبته للقيام به إحدى ثريات ألمانيا بعد أن رصدت لإتمامه مبلغا كبيرا من المال, ومع كل ما بذل إلا أنه لم يحفل بتحقيقه إلا في نيسان أواخر القرن التاسع عشر ميلادي , إذ صدر الإذن بفتح القبة لاستطلاع ما فيها بحضرة والي سوريا ناظم باشا في عام 1313هـ مع لجنة من أعيان علماء دمشق وممن استدعاهم البطريرك اغناطيوس افرام رحماني لأنه كان خبيرا بعدة لغات شرقية , فلما علم البارون فون سودن بصدور هذا الإذن أوفد سريعا من قبله بمعرفة جمعية العلوم الملكية في برلين د. برونو فيولين أحد تلامذة العلامة نولد كي فورد إلى دمشق وكانت اللجنة قبل قدومه قد بحثت في اضبارة من الصحف فعثرت بينها على قطعة التوراة في الاسطرنجيلي ( السرياني القديم) تبلغ 36 صفحة , تتضمن فصولا من سفر الإعداد وسفر الخروج , ثم ظفر د .برونوفيولت بملحق لها , كما وجد صحفا كثيرة من الرق في اليونانية واللاتينية والارمنية والعبرانية والآرامية والفلسطينية والسامرية , بعضها قديم العهد تقدَّر كتابته في القرن الخامس الميلادي, وقد ضم ماجمعه من هذه اللقط في كتاب خاص نشره باللغة الألمانية , وذكرت مجلة المشرق في المجلد 25 لعام 1902 م أن من جملة ما عثر عليه فيولت من أوراق ورقوق في القبة قسم من كتاب المزامير بالعربية مكتوبة بحرف يوناني. تراثنا هدية للإمبراطور الألماني إن الذي حل بهذه القبة لا يعادل ما حل بها في عهد السلطان العثماني عبد الحميد الثاني , فعندما زار إمبراطور ألمانيا غليوم الثاني دمشق أمر السلطان بفتح خزانة القبة وكان فيها قطع من الرقوق كتب فيها سور من القرآن الكريم بالخط الكوفي , ومنها قطعة مهمة من مصاحف وربعات وقطع من الأشعار المقدسة بالآرامية الفلسطينية وكتابات دينية وأدبيات وقصص رهبانية ومزامير عربية بالحرف اليوناني , ومقاطع شعرية لاوميروس وكراريس وأوراق بالقبطية والكرجية والارمنية وجذاذات عبرانية وسامرية فيها نسخ من التوراة وتقاويم أعياد السامريين , وصكوك للبيع والأوقاف وعهود زواج , كما عثر بينها على مقاطيع لاتينية وفرنسية قديمة , وقصائد يرتقي عهدها إلى أيام الصليبيين ونسخة من إنجيل برقوق , فما كان بعد ذلك إلا أن أمر السلطان عبد الحميد واليه على دمشق سنة 1317 هـ أن يهدي الإمبراطور غليوم الثاني ما يريده , وهذا الذي كان , وأهدى ما بقي على بعض رجال الأستانة , ونال بعض رجال دمشق شيئا منها , وقد استخلص من أيديهم بعض هذه القطع وحفظ في دار الآثار بدمشق , واهم تلك القطع قطعة كوفية مكتوبة على رق من ربعة شريفة وقفها عبد المنعم بن احمد سنة 298 هـ وعلى الوجه الثاني نقش مذهب باسم واقفها . وقد رأى الشيخ طاهر الجزائري في تلك القبة جزءا مكتوبا عليه أنه وقف على مشهد زين العابدين سنة نيف وسبعة وأربعمئة . إن خزانة القبة وحدها تعطينا دليلا كافيا على ما كانت عليه المكتبات والمخطوطات قبلا في دمشق , دمشق التي لم يخل مسجد أو مدرسة أو بيت من مكتبة خاصة , ولكن ألم بها ما ألم بغيرها من مصائب وكوارث , ومع أن بعضها نجا من الحريق والزلازل والتلف , إلا أنه جاء من قدمها هدية رخيصة إلى الأوربيين وما بقي وقع في أيدي تجار المخطوطات حيث فضلوا لمعان الذهب ورنين الفضة على هذا التراث الضخم , فأضاعوا ما بقي , واليوم إذا احتاج باحث إلى نص قديم فما عليه إلا أن يذهب إلى مكتبات ومتاحف أوربا ليتسول ويستجدي بعض تراثنا . إن هذا الكنز قد تشتت كما تشتتت خزانة آل الحسيبي والعطار والحلبي والأيوبي في دمشق , وبعثر وكما بعثرت خزانة كتب آل الحمزة وآل الحسيبي وآل الأمير عبد القادر الجزائري الحسني وغيرهم كثير .